كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن المنذر: والأكثر ممن رأيناه يرى على من وُجد على هذه الحال الأدبَ.
وقد مضى في هود اختيار ما في هذه المسألة، والحمد لله وحده.
الثامنة: قوله تعالى: {فاجلدوا} دخلت الفاء لأنه موضع أمر والأمرُ مضارع للشرط.
وقال المبَرّد: فيه معنى الجزاء، أي إن زنى زانٍ فافعلوا به كذا، ولهذا دخلت الفاء؛ وهكذا {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
التاسعة: لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمامُ ومن ناب منابه.
وزاد مالك والشافعيّ: السادة في العبيد.
قال الشافعيّ: في كل جلد وقطع.
وقال مالك: في الجلد دون القطع.
وقيل: الخطاب للمسلمين؛ لأن إقامة مراسم الدين واجبة على المسلمين، ثم الإمام ينوب عنهم؛ إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
العاشرة: أجمع العلماء على أن الجلد بالسَّوْط يجب.
والسَّوْط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطًا بين سَوْطين، لا شديدًا ولا ليِّنًا.
وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رجلًا اعترف على نفسه بالزنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَوْط، فأتَى بسَوْط مكسور، فقال: «فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: «دون هذا» فأتِي بسوط قد رُكب به ولان.
فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد.
الحديث.
قال أبو عمر: هكذا رَوى هذا الحديثَ مرسلًا جميعُ رواة الموطّأ، ولا أعلمه يستند بهذا اللفظ بوجه من الوجوه، وقد روى معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله سواء.
وقد تقدّم في المائدة ضرب عمر قُدامَة في الخمر بسوط تام.
يريد وَسَطًا.
الحادية عشرة: اختلف العلماء في تجريد المجلود في الزنى؛ فقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يجرّد، ويترك على المرأة ما يسترها دون ما يقيها الضرب.
وقال الأوزاعِيّ: الإمامُ مخيَّر إن شاء جَرّد وإن شاء ترك.
وقال الشَّعْبِيّ والنَّخَعِيّ: لا يجرّد، ولكن يترك عليه قيمص.
قال ابن مسعود: لا يحل في هذه الأُمّة تجريد ولا مدّ؛ وبه قال الثورِيّ.
الثانية عشرة: اختلف العلماء في كيفية ضرب الرجال والنساء؛ فقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلّها سواء، لا يقام واحد منهما؛ ولا يجزي عنده إلا في الظهر.
وأصحاب الرأي والشافعي يرون أن يُجلد الرجل وهو واقف، وهو قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقال اللّيْث بن سعد وأبو حنيفة والشافعيّ: الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجرّدًا قائمًا غير ممدود؛ إلا حدّ القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه.
وحكاه المهدوِيّ في التحصيل عن مالك.
وينزع عنه الحَشْوُ والفَرْو.
وقال الشافعي: إن كان مدّه صلاحًا مُدّ.
الثالثة عشرة: واختلفوا في المواضع التي تضرب من الإنسان في الحدود؛ فقال مالك: الحدود كلها لا تضرب إلا في الظهر، وكذلك التعزير.
وقال الشافعيّ وأصحابه: يُتّقَى الوجه والفرج وتضرب سائر الأعضاء؛ وروي عن عليّ.
وأشار ابن عمر بالضرب إلى رِجْلَيْ أَمَة جلدها في الزنى.
قال ابن عطية: والإجماع في تسليم الوجه والعورة والمَقاتل.
واختلفوا في ضرب الرأس؛ فقال الجمهور: يُتّقَى الرأس.
وقال أبو يوسف: يضرب الرأس.
وروي عن عمر وابنه فقالا: يضرب الرأس.
وضرب عمر رضي الله عنه صَبِيغًا في رأسه وكان تعزيرًا لا حدًّا.
ومن حجة مالك ما أدرك عليه الناس، وقوله عليه السلام: «البينةَ وإلا حَدٌّ في ظهرك» وسيأتي.
الرابعة عشرة: الضرب الذي يجب هو أن يكون مؤلمًا لا يَجرح ولا يَبْضَع، ولا يُخرج الضارب يده من تحت إبطه.
وبه قال الجمهور، وهو قول عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما.
وأُتِيَ عمر رضي الله عنه برجل في حدٍّ فأتى بسوط بين سوطين وقال للضارب: اضرب ولا يُرى إبطك؛ وأعط كلّ عضو حقه.
وأتى رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة؛ فبعثه إلى مطيع بن الأسود العدويّ فقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد؛ فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضربًا شديدًا فقال: قتلت الرجل! كم ضربته؟ فقال ستين؛ فقال: أَقِصَّ عنه بعشرين.
قال أبو عبيدة: قوله أَقِصَّ عنه بعشرين يقول: اجعل شدّة هذا الضرب الذي ضربته قصاصًا بالعشرين التي بقيت ولا تضربه العشرين.
وفي هذا الحديث من الفقه أن ضرب الشارب ضرب خفيف.
وقد اختلف العلماء في أشد الحدود ضربًا وهي:
الخامسة عشرة: فقال مالك وأصحابه واللّيث بن سعد: الضرب في الحدود كلها سواء، ضربٌ غير مُبَرِّح، ضربٌ بين ضربين.
وهو قول الشافعيّ رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: التعزير أشدّ الضرب؛ وضرب الزنى أشدّ من الضرب في الخمر، وضرب الشارب أشدّ من ضرب القذف.
وقال الثَّوْرِيّ: ضرب الزنى أشدّ من ضرب القذف، وضرب القذف أشدّ من ضرب الخمر.
احتج مالك بورود التوقيف على عدد الجلدات، ولم يَرِد في شيء منها تخفيف ولا تثقيل عمن يجب التسليم له.
احتج أبو حنيفة بفعل عمر، فإنه ضرب في التعزير ضربًا أشدّ منه في الزنى.
احتج الثورِيّ بأن الزنى لما كان أكثر عددًا في الجلدات استحال أن يكون القذف أبلغ في النكاية.
وكذلك الخمر؛ لأنه لم يثبت فيه الحد إلا بالاجتهاد، وسبيل مسائل الاجتهاد لا يقوي قوّة مسائل التوقيف.
السادسة عشرة: الحدّ الذي أوجب الله في الزنى والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين أيدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم يختارهم الإمام لذلك.
وكذلك كانت الصحابة تفعل كلما وقع لهم شيء من ذلك، رضي الله عنهم.
وسبب ذلك أنه قيام بقاعدة شرعية وقُرْبةٍ تعبُّديّة، تجب المحافظة على فعلها وقدرها ومحلها وحالها، بحيث لا يُتعدّى شيء من شروطها ولا أحكامها؛ فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فتجب مراعاته بكل ما أمكن.
روى الصحيح عن حُضين بن المنذر أبي ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان وأتِي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهِد عليه رجلان، أحدهما حُمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ؛ فقال عثمان: إنه لم يتقيّأ حتى شربها؛ فقال: يا عليّ قم فاجلده.
فقال عليّ: قم يا حسن فاجلده.
فقال الحسن: وَلِّ حارّها من تَوَلَّى قارّها فكأنه وَجَد عليه فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده؛ فجلده وعليّ يَعُدّ. الحديث.
وقد تقدم في المائدة.
فانظر قول عثمان للإمام عليّ: قم فاجلده.
السابعة عشرة: نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنى والقذف، وثبت التوقيف في الخمر على ثمانين من فعل عمر في جميع الصحابة على ما تقدم في المائدة فلا يجوز أن يُتعدَّى الحد في ذلك كله.
قال ابن العربيّ: وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر ولا احْلَوْلت لهم المعاصي، حتى يتخذوها ضَراوة ويعطفون عليها بالهوادة فلا يتناهوْا عن منكرٍ فعلوه؛ فحينئذٍ تتعيّن الشدّة ويزاد الحدّ لأجل زيادة الذنب.
وقد أتِيَ عمر بسكران في رمضان فضربه مائة؛ ثمانين حدّ الخمر وعشرين لهتك حرمة الشهر.
فهكذا يجب أن تركّب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات.
وقد لعب رجل بصبيّ فضربه الوالي ثلثمائة سوط فلم يغيّر ذلك مالك حين بلغه، فكيف لو رأى زماننا هذا بهتك الحرمات والاستهتار بالمعاصي، والتظاهر بالمناكر وبيع الحدود واستيفاء العبيد لها في منصب القُضاة، لمات كمدًا ولم يجالس أحدًا؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قلت: ولهذا المعنى والله أعلم زِيد في حدّ الخمر حتى انتهى إلى ثمانين.
وروى الدّارَقُطْنِيّ حدّثنا القاضي الحسين بن إسماعيل حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدّوْرَقِيّ حدّثنا صفوان بن عيسى حدّثنا أسامة بن زيد عن الزهريّ قال: أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتِي بسكران، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن عنده فضربوه بما في أيديهم.
وقال: وحَثَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب قال: ثم أتِيَ أبو بكر رضي الله عنه بسكران، قال: فتوخّى الذي كان مِن ضربهم يومئذٍ؛ فضرب أربعين.
قال الزهريّ: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وَبَرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، قال: فأتيته ومعه عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وعليّ وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام ويقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر! وتحاقروا العقوبة فيه؛ فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسَلْهم.
فقال عليّ: نراه إذا سكِر هَذَى وإذا هَذَى افترى وعلى المفتري ثمانون؛ قال فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال.
قال: فجلد خالد ثمانين وعمرُ ثمانين.
قال: وكان عمر إذا أتِي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الذلّة ضربه أربعين.
قال: وجلد عثمان أيضًا ثمانين وأربعين.
ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمُنَكِّل لهم حين أبْوا أن ينتهوا.
في رواية: «لو مُدّ لنا الشهر لواصلنا وصالًا يَدَع المتعمِّقون تعمّقهم» وروى حامد بن يحيى عن سفيان عن مِسْعَر عن عطاء بن أبي مَرْوان أن عليًّا ضرب النجاشيّ في الخمر مائة جلدة؛ ذكره أبو عمر ولم يذكر سببه.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} أي لا تمتنعوا عن إقامة الحدود شفقةً على المحدود، ولا تخففوا الضرب من غير إيجاع؛ هذا قول جماعة أهل التفسير.
وقال الشَّعْبِيّ والنَّخَعِيّ وسعيد بن جُبير: {لا تأخذكم بِهِما رأفةٌ} قالوا في الضرب والجلد.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إقامة حدّ بأرضٍ خيرٌ لأهلها من مطر أربعين ليلة؛ ثم قرأ هذه الآية.
والرأفة أرقّ الرحمة.
وقرىء {رأَفةٌ} بفتح الألف على وزن فَعَلة.
وقرىء {رآفة} على وزن فَعالة؛ ثلاث لغات، وهي كلها مصادر، أشهرها الأولى؛ من رَأُف إذا رَقّ ورَحِم.
ويقال: رأْفة ورآفة؛ مثل كَأْبة وكآبة.
وقد رَأَفْتُ به ورأُفْت به.
والرؤوف من صفات الله تعالى: العطوفُ الرحيم.
التاسعة عشرة: قوله تعالى: {فِي دِينِ الله} أي في حُكم الله؛ كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} [يوسف: 76] أي في حكمه.
وقيل: {في دِينِ اللَّهِ} أي في طاعة الله وشرعه فيما أمركم به من إقامة الحدود. اهـ.